الثانية عشرة والنصف صباحًا وما زلت أُفرغ أقداح القهوة في جوفي لعل الصداع يكف قليلًا عن نقر رأسي، وهذه الوحدة تحوم فوقي بدأب، أشعر وكأنها ترنّ في أذني وتصيبني بالدوار كما لو كنتُ أراقب بندول ساعة لا يكف عن التأرجح. بالحديث عن الأرجحة؛ أتساءل كم مرة علينا أن نفشل في الحبّ حتى نتوقف؟ وهل تُرانا سنفعل يومًا؟ هل سأتوقف أيضًا عن ترديد القصائد وحشو ذاكرتي بالوجوه رغمًا عنها؟ أشعر أنها على وشك التقيؤ!
أتساءل كثيرًا كم رجلًا في حياتي قد هويت؟ أشعر وكأنني عشتُ حيوات أخرى وأحببتُ الكثير من الرجال الذين خذلوني في كل مرة، أمر يبعث على السخرية كيف يكون المرء على هذا القدر من الأمل والتجاوز حتى أنه يشرع أبواب قلبه على مصاريعها ويتلقى الخيبات واحدة تلو الأخرى دون أن يتخذ أي إجراءات لوقف هذه الممارسات في حق نفسه! رباه ما الذي يضطر امرأً ليرضى بروح ملأى بالندوب! يؤسفني أن الأرواح لا تُشفى وهي كذلك غير قابلة للترميم أو ما شابه، يمكنها أن تتظاهر بذلك لوقت طويل لكنها ستخفق مرة وتنزّ آلامها كما ينزّ الجرح القيح، لا يمكن تقطيب الروح ولا تضميدها، تظل جراحها حمراء نديّة ما امتدّ بها العمر، وما إن تبدأ بالالتحام حتى يمر أحدهم فينكأ الجرح وهكذا حال الروح!
التقيت مرة صديقًا في وقت كنتُ أعالج فيه لوعة فراق -كما يحدث معي دومًا بطبيعة الحال-، ويحدث أنّ كل فراق يقع قبل لقائه بأيام أو حتى ساعة! ربما تستنجد روحي بروحه فيهبّ للقائي، لا أعلم؛ لكنه لم يعد يسألني عمن خذلني وكيف، كنا نجلس متقابلين متشابكي الأيدي والأعين، جلسنا هكذا معظم لقائنا حتى شعرت بروحي الشوهاء الدميمة تُزهر ثانية، أحبّ أن أشعر بالنور ينتقل من راحتيه إلى روحي الظلماء فتضيء كقاعة رقص، أخشى يومًا أن تتبادل أرواحنا الأجساد، لا أدري حقًا كيف سيمكنه مواجهة هذا الظلام الذي يسكنني، وتلك الفجوات القاتمة التي تملأ روحي لا تُشرق إلا عندما أكون بصحبته، أشعر دومًا أنه الجانب المشرق مني، أنا النفق المظلم وهو الضوء الساطع في نهايته، ربما أكون أنا من لا يمكنه المواجهة! أخشى أن أكون كمن اعتادت عيناه الظلام فيُعميه الضوء المفاجئ! أو ربما كنت شجرة عطشى فتقتلني كثرة الماء. روحي معطوبة ملأى بثقوب يتسلل منها النور فيصنع أكاليل تطوّق رؤوس الآخرين وأجيادهم، بينما أظل معتمة ترهقني رحلة البحث عن الضياء. ثمة من يشفق على هذا السواد فيطبع قبلة نيّرة على وجنتي ويمضي دون أن ينتظر شكرًا أو حتى إيماءة لطيفة، صرتُ أشبه بمتسولة تجمع النور الذي سرعان ما يفرّ مبتعدًا في هلع ثم أعود خائبة إلى ظلمتي، إلى الظلال التي أعرفها وتعرفني، وتلك الأزقة الرطبة التي تضم حشود الظلام بكل ما أوتيَت من ضيق، لكني رغم ذلك أستمر في الكتابة حتى عندما يبدأ العفن في النمو على أطراف الأوراق متظاهرًا بأنه جزء من الظلمة! أكتب إلى صديقي بسرعة ودون توقف وكأن شيئًا ما يطاردني ولا يفصل بيننا إلا خيط رفيع من النور الحادّ، أشعر بأنفاسه تقترب من وجهي، لكني أعلم يقينًا أنه لن يلج إلى بحر الظلمات، أظن أن هذا يكفي، لا يجدر بي أن أكتب المزيد -بهذا القلم الذي أضطر إلى هزّه كل دقيقة ونصف الدقيقة- وإلا فإني سأعرّض صديقي إلى ما لن يسعه احتماله من المساءلة والتضييق، علي أن أذهب حقًّا قبل أن تزلّ يدي وتعترف بما جاهدتُ عمرًا لإخفائه، وداعًا.